يجادل البحث في هذه الجزئية أن الحلم الاجتماعي والخيال السياسي في مصر متمحوران حول الأمن والفزع وبشكل رئيسي حول ثلاثة نقاط. الأولى هي تأمين وظيفة عمل والثانية هي الخدمات العامة للمنطقة من خلال نواب مجلس الشعب. والثالثة هى سلامة الجسد من ممارسات الشرطة أو البلطجية. ولهذا كانت لجان التفتيش الليلية أو في بعض النقاط المهمة في الشوارع المصرية بمثابة الرعب الأكبر لراكبي المكيروباص. أضف إلى ذلك توغل مؤسسة الشرطة في المناطق الشعبية على وجه الخصوص من خلال المخبرين والأمناء. وهنا لا يتعامل المخبر أو الأمين ككونه فرداً في المجتمع. ولكن تتجسد وتحل فيه سلطة المؤسسة الشرطية.
وبما أن الشرطة كانت الجهاز الأكثر أهمية في الدولة في نظام مبارك وكانت تفعل ما يحلو لها ويدها مطلقة في وعلى المجتمع كان المخبر هو الآخر ذو يد طائلة. ولم يكن مستغرباً أن أحد أحلام الفتيات في مصر وبعض الأهالي في المناطق الفقيرة هو الزواج من ضابط شرطة أو مخبر أو أمين شرطة. فقد كان هذا يعني توفير الأمن لها ولأهلها بالإضافة إلى التلذذ بقدر كبير من ممارسة السلطة وتدوير القهر على آخرين. وبالطبع كان البطجي هو الآخر أحد أهم أبطال المشهد اليومي. فتقارير كثيرة تشير إلى استخدام الشرطة وبالأخص جهاز أمن الدولة لجيوش من البلطجية. وهو ما يعني أن البلطجي لم يكن خارجاً على القانون بل كان جزء أصيلاً من تركيبة السلطة في النظام السياسي وهو انعكاس آخر للمؤسسة.
وهكذا يتضح أن إنتاج الفزع واللاأمن كان عملاً ممنهجاً للسيطرة على المجتمع. وبالطبع فإن غياب مشروع تنموي لنظام مبارك ومساحات العشوائيات الواسعة التي شهدها عصره ساعدا على تخصيب التربة الاجتماعية لهذه الممارسات ولخلق حالة من الفزع الاجتماعي الدائم. وقد أوضح فيلم مثل "حين ميسرة" للمخرج خالد يوسف عمق الواقع الاجتماعي والعلاقات المتداخلة مع السلطة والتي تمثلت في علاقة بطل الفيلم الذي تحول إلى بلطجي وتابع لجهاز الشرطة. ولكن لم يخرج الفيلم من إطار خلق الفزع وتنميط سكان هذه المناطق وتصويرهم –حتى وإن لم يرد مخرج الفيلم ذلك- على أنهم تهديد أمني كبير وأنهم ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على بقية المجتمع وتجسيدهم كتهديد من ثورة الجياع. وهي النظرية التي أثبتت الثورة المصرية فشلها.
إلا أن هذا النوع من الخوف والفزع قد تجلى بوضوح في معمار وهندسة المدن أو الأحياء الجديدة داخل القاهرة على سبيل المثال. فهذه المدن تتسم بارتفاع أسوارها المذهل وتشديد النزعة الأمنية على المحيط الخارجي وعملية المراقبة والتأمين تقوم على مبدأ استباقي؛ أي أن المراقبة تتم على ما هو خارج أسوار المدينة وليس على داخلها. وكأن المدن الجديدة في القاهرة تحاول حماية نفسها من المدينة القديمة. وهذا يؤدي إلى خلق ثنائية جامدة في المجتمع وفرزه بشكل شديد على أساس أمني وطبقي. وهو الأمر الذي يقود إلى إنقسام المجتمع على ذاته وتعزيز الخوف بين شرائحه المختلفة. بل أكثر من ذلك؛ فهذا النمط من التقسيم يولد قدراً هائلاً من الحقد عند طرف، ومن التوحش عند الطرف الآخر.
ولقد عبرت رواية "يوتوبيا" لـ-أحمد خالد توفيق بشكل خيالي/واقعي عن هذين العالمين والواقع المادي والنفسي لكل منهما. فعلى طريقة فرانز فانون يصف خالد توفيق مدى وحشية العالم المترف وعدم تورعه في استغلال الثروات ونهبها وما يتولد من إنحطاط أخلاقي في مثل هذا المجتمع وعدم اكتراثه بأي منظومة للقيم غير اللذة وشهوة الاستهلاك والهوس المفرط بتأمين الذات من الآخر. ويستعين أفراد العالم الفوقي/المدن الجديدة بحراسات خاصة مما يكون منظومة أمنية مستقلة عن الدولة وبقية المجتمع، إضافة للأمن الذي توفره الدولة لهذه المناطق بحكم أن سكانها هم النخبة الحاكمة. وفي الرواية-مثلما في الحقيقية- تحظى هذه الأحياء بكافة الخدمات. وفي العالم الثاني يصف لنا توفيق، كما نرى على أرض الواقع إذا قارنا حياً مثل التجمع الخامس بعشوائيات القاهرة- عمق تدهور الأوضاع وما ساءت إليه الأمور من فقر وهمجية وحالة الذل والمهانة السائدة في هذا العالم. وفي حقيقية الأمر أن مثل هذا النمط في البناء وهندسة المساحة وهيكلتها يعكس طبيعة استعمارية أمنية عسكرية في بناء المجتمع. فهو عودة مرة أخرى إلى الهيكلة التي تمت في عهود الاستعمار.
فعلى حسب وصف فرانز فانون تقوم تلك المجتمعات على هذا التقسيم بين مساكن السكان الأصلين وبين المستعمر الذي تلتحق به لاحقاً النخبة الوطنية التي يخلقها. وعلى حسب وصف فانون فالسكان الأصلين يبدأن في اشتهاء كل ما يملكه المستعمر حتى نسائهم (Fanon, 2004: 3-4). ولقد عبر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام بوصف رائع لتلك الثنائية في أغنيتهم التي حملت أسم "هما مين وإحنا مين". وفي هذه الأغنية يتم وصف الاختلاف في المسكن ونوعية النساء والطعام وإيقاع الحياة بشكل عام ومن هم وقود الحرب. وهذه الهندسة للمجتمع تعكس تغول النزعة الأمنية الوقائية لفئة من فئة أخرى من أبناء نفس الوطن. وينتشر في البنية العقلية لكلا الطرفين أمر خطير وهو الخوف المتبادل؛ فالطرف الأغنى عنده شعور دائم بأن المهمشين سيقومون بالانقضاض عليه في أي لحظة لسرقته. وكذلك الطرف الفقير؛ فهو يشعر أن الطرف الغني سينقض لهدم مناطقه في أي لحظة لبناء مشاريع استثمارية على ما تبقى من أرضه ومساكنه المهلهلة. وبسبب هذه الثانئية الأمنية والطبقية تولد حالة شديدة من العداء الكامن في نفسية كل طرف للآخر.
وعلى نطاق مجتمعي أوسع من العشوائيات، تسبب غياب دور الدولة في التوظيف والمحور الاقتصادي بشكل عام وتوحش سياسات الخصخصة بالأخص بتحول جذري في المجتمع حيث تمحور حلم قطاعات واسعة من الطبقات المعدمة وغير المعدمة حول تأمين وظيفة عمل. فالأهالي –من مختلف الطبقات- التي تحملت معاناة كبيرة في تعليم الأبناء أصبحت أمام عبء آخر أكثر ثقلاً من العملية التعليمية ذاتها وهو توظيف هذه الأعداد المهولة من الخريجين. ولقد تخلت الدولة عن هذا الدور بشكل كامل تقريباً مع اكتمال مشروع الخصخصة وتبني السياسات النيوليبرالية مع حلول الألفية. وصارت عملية التوظيف في يد رجال الأعمال إما بشكل مباشر عن طريق التعيين فيما يملكون من مؤسسات وشركات اقتصادية أو من خلال الوساطة في شركات أجنبية ومؤسسات دولية تربطهم بها شبكة علاقات واسعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية. ولقد ضم الحزب الوطني أغلب رجال الأعمال في مصر. أضف إلى هذا هيمنته الكاملة على النظام العام حيث كان يمثل النظام السياسي والاقتصادي والدولة معاً.
ومن هنا نستطيع فهم شيئين. أولاً، حرص مرشحو الوطني من رجال الأعمال على الوصول إلى البرلمان لضمان استمرار مصالحهم الاقتصادية من خلال احتلال البنية التشريعية في الدولة. ثانيًا، نجاح أغلب هؤلاء المرشحين ودعمهم من قطاعات جماهيرية واسعة. فلقد تم اختزال الجانب الاقتصادي في رجال الأعمال وتم اختزال الدولة في الحزب الوطني. فهذا التماهي بين النظام السياسي والدولة والحزب الوطني جعلنا أمام الدولة متجسدة في كيان واحد من بداخلها يحظى ببعض ما يمكن أن تقدمه له الدولة من خدمات. أما من هو خارجها فهو خارج العملية بالكلية وعليه البحث عن منافذ أخرى لا علاقة لها بالدولة. ومن هنا حدث تزاوج بين الحلم الاجتماعي والوعد السياسي. والحقيقية أن الوعود المقدمة من مرشحي الحزب الوطني المنحل لم تكن تمثل وعود مرشحين سياسين على الأطلاق، بل كانت وعود دولة.
ومن هنا نستطيع أيضاً فهم صعوبة منافسة أحزاب أخرى للحزب الوطني باستثناء الإخوان المسلمين. لعدة أسباب. أولاً: تغلغلهم داخل البينة الاجتماعية وتواجدهم الدائم مع الجماهير من خلال مؤسساتهم الممتدة من التعليم إلي الصحة وبساطة الأفكار وقدرتهم على فهم الواقع اليومي المعاش للجماهير. ثانياً: خطابهم الممزوج بين الديني والخدمي. ثالثاً: شبكة المصالح الاقتصادية القادرة على منح خدمات للمواطن بشكل يومي. رابعاً، قدرتهم على الوفاء بالوعد السياسي للجماهير. خامساً: ثقة قطاعات واسعة من الجماهير في هذه الخدمات؛ حيث لا تنقطع بعد الانتخابات ولا ترتبط بالمكسب أو الخسارة السياسية. علي سبيل المثال، المؤسسات الطبية المختلفة المتواجدة في الإسكندرية التابعة للإخوان المسلمين لا تتوقف عن تقديم خدماتها بل تتسم في كثير من الأحيان بالجودة. سادساً، تشابه بنية تنظيم الجماعة ومحاكاته لفكرة وتنظيم الدولة وتملكها لبنية تحتية موازية. وبهذا تستطيع الجماعة مناورة الحزب الوطني حيث لا يتفاعل كلاهما كأحزاب أو حركات ولكن كدول مع فارق الإمكانيات والقدرات وتفوق كل منهم على الآخر في مواقع مختلفة.
ولنتناول سريعاً النقطة الأخيرة وهى علاقة الفساد بتوليد الأمن والفزع. كما أشرنا سابقاً ضرب الفساد بجذوره أفقياً ورأسياً في المجتمع المصري والدولة والنظام السياسي. إلا أن الأمر الأخطر هو تحول الفساد إلي نظام حياة حيث لا يستقيم النظام بدون ممارسة قدر كبير أو صغير منه حسب ما تقتضيه الحاجة. وهو ما يسبب حالة خوف كبيرة في قطاعات واسعة من المجتمع من محاولة انتزاعه. حيث يتسبب انتزاع الفساد لتعرض المنظومة العامة للانهيار والتخبط. وهو الأمر الذي عبر عنه سائق شاحنة نقل ثقيل في حوار دار بينه وبين الباحث في إحدى اللجان الشعبية. كان الرجل ناقماً بشدة على الثورة لدرجة تثير الاستغراب. وحينما تم سؤاله عن وظيفته هل تعرض لمضايقات أمنية واستغلال من قبل أفراد الشرطة، أجاب أنه أمر معتاد ويحدث له بشكل يومي وفي محافظات كثيرة. إلا أنه قبل الثورة كان يعرف كيف يتعامل داخل المنظومة التي ألفها وتملك مفاتيح التعامل معها. وقد قال نصاً: قبل الثورة كنت أحضر الخمسين جنيهاً للأمين أو المخبر في أماكن الكمائن المعروفة وبعد إعطائه له كانت تسير الأمور على مايرام أما الآن فأنا لا أعرف كيف أتصرف. ويشير الدكتور محمد بشير صفار أن الفساد في مصر تحول إلى أحد أهم ميكنزمات إعادة توزيع الثروة. وهكذا يرتبط الفساد هو الآخر بحالة شديدة من الأمننة. لأن حتى انتزاع الفساد لم يعد قضية سياسية أو اقتصادية في المقام الأول ولكن صار أزمة أمنية تهدد مسار الحياة اليومية للمواطن المصري.
لم يتم تطوير الأفكار بخصوص الخلفيات النفسية والاجتماعية للعالمين من خلال قراءة فانون ويوتوبيا فقط. بل تمت في حقيقية الأمر قبل قراءة كل منهما من خلال تجربة عملية للباحث في أحداث منطقة طوسون الشعبية بالإسكندرية. حيث قامت قوات الأمن والمحافظة باجتياح المنطقة والهجوم على الأهالي وسحق منازلهم لصالح بعض المشاريع الاستثمارية. وكان الباحث أحد النشطاء والصحفين المهتمين بتلك القضية وقضى وقتاً طويلاً معها ومع أهالي طوسون ومازالت تربطهم به علاقات طيبة حتى اليوم.